مبدأ المساواة بين الدفاع والادعاء (مساواة السلاح)

يتحدد مدلول التوازن بين حقوق أطراف الخصومة فى تمتع أصحاب المراكز القانونية – أى أطراف الدعوى الجنائية – بذات الحقوق والحريات. فمتى حرم أحدهم من هذه الحقوق والحريات التى كفلها الدستور ، بينما تمتع بها الآخر ، كان النص القانونى الذى أقام هذا التمييز مخالفاً لمبدأ المساواة فضلاً عن مخالفته للحقوق والحريات التى أهدرها هذا النص. وهو ما أطلق عليه فى المؤتمر الدولى الثانى عشر لقانون العقوبات (هامبورج 1979) مبدأ المساواة فى الأسلحة. ولا يعنى التوازن بين الحقوق أن يرسم النص حق الدفاع فى ممارسة حقوقه ، بل يجب أن يشتمل على تمكينه من هذا الحق بالقدر الضرورى الذى يتفق مع المقتضيات العامة للمحاكمة المنصفة. وقد أشارت المحكمة الدستورية العليا فى مصر إلى هذا التوازن ، فقالت فى أحد أحكامها بعدم جواز الإخلال فى إطار المحاكمة المنصفة "بضمانة الدفاع التى تتكافأ للخصوم معها أسلحتها egality of armes"[1]. وقد أطلق المجلس الدستورى الفرنسى على مبدأ المساواة فى الأسلحة مبدأ التوازن بين الأطراف أو مبدأ التوازن بين حقوقهم.

وقد جاء مبدأ المساواة فى الأسلحة بين أطراف الخصومة للحد من سلبيات التحرى والتنقيب الذى ينظر إلى المتهم بوصفه مجرد محل سلبى للإجراءات الجنائية ، وهو ما أدى كذلك إلى الحد من احتكار الدولة لسلطة العقاب من خلال الاعتراف بحقوق الدفاع والاعتراف بالحق فى الادعاء المباشر بجانب الحق فى الدعوى الجنائية الذى تملكه الدولة تبعاً لسلطتها فى العقاب. وقد استتبع الاعتراف بحقوق الدفاع إعطاء المتهم دوراً إيجابياً فى الخصومة الجنائية.

وقد استقر القضاء الفرنسى على أن المساواة فى الأسلحة تتطلب أن تكون المساواة معقولة وليست مساواة رياضية لا تتحقق فيها المصلحة العامة. وبناء على ذلك قضى بأنه لا يجوز للمتهم أن يتمسك بالإخلال بمبدأ المساواة فى الأسلحة ، على أساس أن محاميه ترافع لمدة أقل مما أتيح لمحامى المدعى المدنى وللنيابة العامة[2] ، وقضى بأنه لا يعد إخلالاً لهذه المساواة رفض محكمة الجنايات توجيه المتهم أسئلة إلى أحد الشهود[3] ، وقضى بأن رفض استدعاء سماع أحد الشهود بناء على تسبيب معقول (مثل تعرضه للتخويف أو الضغط أو الانتقام) لا يعد إخلالاً بالمساواة فى الأسلحة[4]. وقضى بأن المساواة فى الأسلحة يسرى على كل طرف فى الدعوى الجنائية سواء كان هو المتهم أو المدعى بالحق المدنى[5]. وحكم بأنه يعد إخلالاً بمبدأ المساواة تأييد غرفة المشورة للأمر بحبس المتهم بعد سماع أقوال المدعى المدنى دون سماع أقوال المتهم[6] ، وحكم بأن احترام حقوق الدفاع ينطوى على وجود إجراءات عادلة ومنصفة تكفل التوازن بين حقوق الخصوم[7].

وقد أكد هذا المبدأ المؤتمر الثانى عشر لقانون العقوبات المنعقد فى هامبورج سنة 1979. فقرر بأن الدفاع يجب أن يكون طرفاً جوهرياً فى الإجراءات وأن يملك وسائل فعالة لمواجهة أى – أو كل – أدلة الإثبات من الاتهام وأن يقدم ما يثبت دفاعه.

وقد أكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بوضوح مبدأ المساواة فى الأسلحة بين المتهم والنيابة العامة بوصفها ممثلاً للاتهام ، وأنه لا يعنى النظر إلى العلاقة بين النيابة العامة والمتهم بوصفها علاقة نزاع بينهما ، وإنما يتحدد المبدأ بالنظر إلى المصالح التى يدافع عنها كل من الطرفين فى معظم الأحوال ، مما يتطلب إعطائها ذات الاهتمام. وأكدت أن كل خصم فى الدعوى يجب أن تتوافر له إمكانية معقولة لتقديم قضيته أمام المحكمة فى ظروف لا تسئ إليه بالنظر إلى خصمه فى الدعوى.

ويلاحظ اختلاف مركز الاتهام عن مركز الدفاع فى أوجه مختلفة. فالدفاع له الحق فى الإحاطة بالتهمة والوقائع التى تستند إليها وأن يستفيد من قرينة البراءة.

ومن ناحية أخرى فإن القائم على سلطة الاتهام حينما يمارس سلطة التحقيق يملك بحكم هذه السلطة بعض وسائل القوة لاستخدامها ، وخاصة سلطات القبض أو الحبس الاحتياطى فى النظام الذى يعطى للنيابة العامة سلطة الجمع بين الاتهام والتحقيق. كما أن المتهم يملك الحق فى الصمت ، بل يملك فى سبيل تفنيد أدلة الاتهام ولو بناء على أدلة غير مشروعة ، وهو ما لا يملكه الاتهام الذى يتقيد بالأدلة المشروعة فى أعماله ، فضلاً عما يلتزم به من موضوعية فى آرائه وتصرفاته وهو ما لا يلتزم به الدفاع. فالاتهام ليس عدواً للدفاع بل يجب أن يشارك متوازناً معه فى أثناء المحاكمة من أجل إثبات الحقيقة لضمان فاعلية العدالة. وهذا التوازن يجد أساسه الدستورى فى قرينة البراءة.

ويلاحظ أن المقصود هو التوازن بين حقوق الدفاع وحقوق الاتهام ، حتى لا تتحول الإجراءات إلى وثيقة اتهام مستمرة يقف أمامها المتهم موقف الإذعان أو الخضوع ، مما يعد مناقضاً لأصل البراءة. ولذا يجب أن يكون التوازن بقدر يحمى حق الدفاع فى مواجهة حقوق الاتهام. وتبدو هذه الحالة ملحة فى مرحلة التحقيق فى النظام الإجرائى المصرى حيث تجمع النيابة العامة فى يديها سلطات الاتهام والتحقيق فى وقت واحد. وإذا كان هذا الاعتبار قد اقتضته المصلحة العامة إلا أنه لا يجوز التذرع بهذه المصلحة للعدوان على حق الدفاع والمساس به بصورة تجعل التحقيق مرحلة مطولة من الإجراءات لصالح الاتهام.

وتطبيقاً لهذا المبدأ ، قضت المحكمة الدستورية العليا فى مصر بأن الدستور قد كفل حق الدفاع ، وأن الحق فى اختيار المحامى الذى يطمئن إليه الموكل ويثق فيه يلعب دوراً متميزاً سواء فى مجال فاعليته المعنوية التى يقدمها الوكيل إلى موكله أو بوصفه دوراً متكاملاً فى مجال ضمان إدارة أفضل للعدالة ، وأن المساواة أمام القانون مؤداها ألا يخل المشرع بمبدأ الحماية القانونية المتكافئة فيما بين الأشخاص المتماثلة مراكزهم القانونية ، فى حين حرم النص التشريعى المطعون فيه الفئة التى شملها الحظر من الحق الذى كفله لغيرهم من المحامين ، دون أن يستند فى التمييز بين هاتين الفئتين إلى مصلحة مشروعة ، بل عمد إلى نقيضها ، فإن هذا التمييز يكون مفتقراً إلى الأسس الموضوعية التى تبرره ، ويكون بالتالى تحكمياً ومنهياً عنه بنص المادة 40 من الدستور[8].

وقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأن إعطاء النائب العام وحده حق استئناف بعض الأحكام فى مسائل المخالفات يتعارض مع المساواة فى الالتجاء إلى طرق الطعن[9].

وقد قرر المجلس الدستورى فى فرنسا أنه من حق المشرع أن ينص على قواعد للإجراءات الجنائية تختلف باختلاف الوقائع والمراكز والأشخاص التى تنطبق عليهم ، بشرط ألا يعبر الاختلاف عن تمييز لا مبرر له وأن يكون مكفولاً بضمانات متساوية للمتقاضين ، وهو ما يتوافر بالسماح بإدخال الدعوى حوزة محكمة الجنح مباشرة. وقضى بعدم دستورية النص الذى يسمح للمدعى المدنى أمام محكمة الجنح أن يقدم طلبات جديدة أمام محكمة الجنح المستأنفة أو أن يدعى أمامها لأول مرة ، وذلك لأن هذه الرخصة تمس بمبدأ مساواة المتهمين أمام القضاء لأن حقهم فى التمتع بمبدأ التقاضى على درجتين فيما يتعلق بالحقوق المدنية يتوقف على سلوك المدعى المدنى.

ولهذا قرر المجلس الدستورى فى فرنسا بأن من حق المشرع وضع إجراءات مختلفة وفقاً للوقائع والأحوال والأشخاص التى تنطبق عليهم ، طالما أن هذا الاختلاف لا يعبر عن تمييز لا يوجد ما يبرره ، وطالما أن الإجراءات على اختلافها مكفولة بالنسبة إلى جميع من تسرى عليهم بضمانات متساوية ، وخاصة فيما يتعلق باحترام حق الدفاع[10].



[1] دستورية عليا فى 5 أغسطس سنة 1995 فى القضية رقم 9 لسنة 16 قضائية دستورية – مجموعة أحكام الدستورية العليا – ج7 – ص106.

[2] Crim.,1 er Juin 1995, Bull. No. 202

[3] Crim., 14 Mai 1996, Bull. No. 202

[4] Crim., 8 Fevrier 1990, Bull. No. 70.

[5] Crim., 7 Mai 1996, Bull. No. 190.

[6] Crim., 18 Decembre 1996, Bull. No. 476.

[7] 89-260 Decision du 28 juillet 1989, Recueil juris. Const., p. 365.

[8] دستورية عليا فى 16 مايو سنة 1992.

[9] Cass. Crim. 6 Mai 1997, J.C.P. 1995.II. 10056.

[10] د/ أحمد فتحى سرور – القانون الجنائى الدستورى – دار الشروق 2006 – ص453 وما بعدها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قاعدة تقيد المحكمة بحدود الدعوى

عدم جواز محاكمة المتهم أو معاقبته مرة ثانية عن جريمة سبق أن صدر فى حقه حكماً باتاً فيها