عدم جواز محاكمة المتهم أو معاقبته مرة ثانية عن جريمة سبق أن صدر فى حقه حكماً باتاً فيها
يعرف هذا الضمان باسم حجية الحكم الجنائى أمام القضاء الجنائى ووفقاً لهذه الحجية يعد الحكم الجنائى البات عنواناً للحقيقة بناء على قرينة قانونية قاطعة غير قابلة لإثبات العكس، وهو ما يعرف باسم الوجه الإيجابى للحجية. وبجانبه يوجد وجه سلبى يتمثل فى عدم جواز محاكمة المتهم عن ذات الفعل مرة أخرى.
وقد نصت المادة (14/7) من العهد الدولى للحقوق المدنية
والسياسية على أنه "لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة أو للعقاب على جريمة سبق
أن أدين بها أو برئ منها بحكم نهائى وفقا للقانون وللإجراءات الجنائية فى كل بلد".
وتأكد هذا المعنى فى المادة (8/4) من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان التى نصت
على أنه "متى حكم على شخص نهائياً بالإدانة أو حكم له نهائياً بالبراءة،
طبقاً للقانون فلا تجوز محاكمته ثانية عن الفعل نفسه مرة ثانية ولو تحت وصف
آخر". وتأكد أيضاً فى البروتوكول السابع للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
وقد تأكد هذا الضمان فى فرنسا منذ دستور 1791 ونص عليه قانون الإجراءات الجنائية
الفرنسى (المادة 6/1). وقد تأكد هذا الضمان فى التعديل الخامس للدستور الأمريكى
والذى نص على "ضمان عدم جواز تعريض أى شخص لخطر العقاب مرتين عن الجريمة
نفسها وهو ما يعرف بضمان الخطر المزدوج. على أن المحكمة العليا الأمريكية اعتنقت
فى حكمها الصادر بعد ذلك ما سمى بمعيار "Blackburg" الذى اعتبر أن هذا الضمان لا يحمى المتهم من توجيه الاتهام إليه
مرة أخرى على جريمة تحتوى على عنصر لم تتضمنه الجريمة السابقة[1]. وأكدت المحكمة العليا
الأمريكية سنة 1993 هذا المعيار واعتبرته أساساً لتحديد مدى شرعية الاتهامات
اللاحقة للحكم[2].
ولا يغير من ذلك أن تكون عناصر الجريمة الجديدة قد تضمنتها الجريمة التى صدر
بشأنها الحكم السابق ، وهو ما يحدث دائماً وفقاً للقوانين الأمريكية.
وهذا المبدأ ما لا يتفق مع قوة الأمر المقضى للحكم
الجنائى طبقاً لقانون الإجراءات الجنائية المصرى، حيث نصت المادة (455) على أنه
لا يجوز الرجوع إلى الدعوى الجنائية بعد الحكم فيها نهائياً بناء على ظهور أدلة
جديدة أو ظروف جديدة أو بناء على تغير الوصف القانونى للجريمة.
وقد احتل هذا المبدأ تدريجياً مكانه كأحد أهم المبادئ
التى تحمى حقوق الفرد. واهتمت نصوص الاتفاقيات الدولية بإيراده ، وأصبح من المبادئ
المسلم بها فى كل من قانون العقوبات الداخلى وقانون العقوبات الدولى.
وعلى الرغم من أن هذا الضمان قد تضمنته المادة (454) من
قانون الإجراءات الجنائية المصرى التى نصت على أنه "تنقضى الدعوى الجنائية
بالنسبة للمتهم المرفوعة عليه والوقائع المستندة إليه بصدور حكم نهائى فيها
بالبراءة أو بالإدانة، إلا أن المحكمة الدستورية العليا قد رفعته إلى مصاف
المبادئ الدستورية، فقد قضت بأن مبدأ عدم جواز معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد
وإن لم يرد صراحة فى الدستور إلا أنه يعد جزءاً من الحقوق الوثيقة الصلة بالحرية
الشخصية، ويعد من الحقوق التى يعد التسليم بها فى الدول الديمقراطية مفترضاً
أولياً لقيام الدولة القانونية[3]، وقد كان من ضمن ما استندت
إليه المحكمة الدستورية العليا فى قضائها بعدم دستورية المادة 5 من المرسوم بقانون
رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم وبسقوط أحكام المواد المرتبطة بها، قول المحكمة باعتبار المتهم مشتبهاً فيه بناء على جرائمه السابقة واعتبار سوابقه
دافعة لحاضره، أن ذلك "ينطوى على معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد،
فقد حوكم عن جرائمه السابقة جميعاً وتم استيفاء عقوبة كل منها، وليس ثمة جريمة
أخرى قارفها – قوامها فعل أو امتناع – حتى تقام الدعوى الجنائية عنها، وإنما
تحركها حالته الخطرة التى افترض المشرع ارتكازها على سوابقه ورتبتها عليها"[4].
وواقع الأمر، أن عدم جواز محاكمة المتهم عن فعل واحد
أكثر من مرة سوف يحول دون تعريضه لعدة عقوبات بسبب ارتكاب هذا الفعل، الأمر الذى
يتعارض مع مبدأ التناسب فى العقاب. ولهذا، فإن هذا الضمان يرتكز فى ذات الوقت على
تأسيس التجريم والعقاب على مبدأ الضرورة والتناسب.
ويتطلب مبدأ التناسب فى العقوبات مراعاة عدم تعدد
العقوبات دون حدود إذ كون الفعل الواحد جرائم متعددة (حالة التعدد المعنوى)، أو
وقعت عدة جرائم لغرض واحد وكانت مرتبطة ببعضها بحيث لا تقبل التجزئة (حالة التعدد
المادى). وقد واجه المشرع المصرى هاتين الحالتين بالمادة (32) عقوبات، فنص على أن
يكون الحكم بالعقوبة المقررة لأشد الجرائم. بل راعى المشرع المصرى مبدأ التناسب
عند تعدد العقوبات فنص فى المادة (36) عقوبات على أنه إذا ارتكب شخص جرائم متعددة
قبل الحكم عليه من أجل واحدة منها وجب ألا تزيد مدة الأشغال الشاقة المؤقتة على
عشرين سنة ولو فى حالة تعدد العقوبات، وألا تزيد مدة السجن أو مدة السجن والحبس
على عشرين سنة، وألا تزيد مدة الحبس وحده على ست سنين.
وكل ذلك يكشف عن مدى تطبيق مبدأ التناسب فى العقوبات
فيما قرره المشرع من حدود لما يتعرض له المتهم عند محاكمته عن فعل واحد ولو كون
بذاته جرائم متعددة، أو عن مجموعة أفعال تكون جرائم متعددة طالما أنه قد ارتكبها
قبل الحكم عليه من أجل واحدة. فالتناسب فى العقاب ضابط يجب مراعاته طالما لم يصدر
عن الشخص الذى ارتكب جرائم متعددة قبل ارتكابها حكم بات عليه من أجل واحدة منها.
وبالتالى، يبدو الارتباط وثيقاً بين هذا الضمان فى المحاكمة المنصفة وتناسب
العقوبات.
يقتصر مجال هذا الضمان على حالة مخالفة الفعل لنظام
قانونى واحد، فلا مجال له إذا خالف بالإضافة إلى النظام الجنائى النظام المدنى أو
النظام التأديبى، فكل من هذه الأنظمة له جزاءاته التى يعرفها القانون. ومع ذلك،
فإنه فى نطاق الجزاء التأديبى تراعى مبادئ المحاكمة المنصفة التى تتطلب عدم جواز
محاكمة المتهم عن فعل واحد أكثر من مرة واحدة، فضلاً عن أهمية تناسب العقاب
التأديبى مع الفعل.
كما يتحدد مجال هذا الضمان بالمحاكمة بالمعنى الضيق لا
المحاكمة بمعناها الواسع التى تشمل التحقيق الابتدائى. فالحجية التى تحوزها
الأوامر الصادرة فى التحقيق الابتدائى لها طابع خاص، لأن الأوامر النهائية [5] الصادرة بألا وجه لإقامة
الدعوى الجنائية لا تمنع من العودة إلى التحقيق إذا ظهرت أدلة جديدة طبقاً للمادة
(197 ، 213) إجراءات. فإذا لم تظهر أدلة من هذا النوع تؤثر سلباً فى الأسباب التى
بنى عليها الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، لا يجوز محاكمة المتهم عن ذات الفعل
الذى صدر بشأنه الأمر ولو بناء على وصف جديد.
وننبه إلى أن استبعاد النيابة العامة لأحد الأوصاف فى
أثناء التحقيق لا يعد أمراً بألا وجه بالنسبة للفعل المنسوب إلى المتهم، وإنما
نكون حيال تعديل فى وصف التهمة يخضع لرقابة المحكمة. وبالنسبة لأوامر الإحالة إلى
المحكمة، فلا تتمتع بأية حجية، ويقتصر أثرها على دخول القضية حوزة المحكمة بصفة
وجوبية، فلا تملك النيابة العامة إعادة التصرف فى التحقيق على نحو مغاير لذلك[6]. إلا أن أمر الإحالة لا
يقيد المحكمة التى تملك كامل الحرية فى تقدير أدلة الدعوى، وفى تكييف وقائعها،
فضلاً عن حريتها فى بحث شروط قبول الدعوى واختصاصها بنظرها وفقاً للقانون. فضلاً
عن سلطة محكمة الجنايات فى التصدى لوقائع جديدة أو متهمين جدد طبقاً للمادة (11)
إجراءات. وننبه إلى أن التصدى للوقائع الجديدة يتجاوز مجرد الأوصاف الجديدة
للواقعة المحالة إلى المحكمة بمقتضى أمر الإحالة ، لأن تغيير وصف التهمة يدخل فى
صلاحيات المحكمة ولا يعد تصدياً لواقعة جديدة[7].
[1] Blackburg V.U.S. 284 U.S. 299, 304 (1932).
– وقد نص الدستور الألمانى على هذا الضمان (المادة 103/3).
[2] U.S.V. Dixon, 509 U.S. 688, 710 (1993).
[3] دستورية عليا فى 4 يناير
سنة 1992 فى القضية رقم 22 لسنة 8 قضائية دستورية – الجريدة الرسمية فى 23 يناير
سنة 1992 (العدد 4) ، 2 يناير سنة 1993 فى القضية رقم 3 لسنة 10 قضائية دستورية –
الجريدة الرسمية فى 14 يناير سنة 1993 (العدد 2) ، 5 أغسطس سنة 1995 فى القضية رقم
8 لسنة 16 قضائية دستورية – الجريدة الرسمية فى 31 أغسطس سنة 1995 (العدد 35) ، 22
مارس سنة 1997 فى القضية رقم 45 لسنة 17 قضائية دستورية – الجريدة الرسمية فى 3
أبريل سنة 1997 (العدد 14) ، 5 يولية سنة 1997 فى القضية رقم 24 لسنة 18 قضائية
دستورية – الجريدة الرسمية فى 19 يولية سنة 1997 (العدد 29).
[4] دستورية عليا فى 2 يناير
سنة 1993 فى القضية رقم 3 لسنة 10 قضائية دستورية – الجريدة الرسمية فى 14 يناير
سنة 1993 (العدد 2).
[5] وتكون نهائية إذا لم يقرر
النائب العام إلغاءها فى مدة ثلاثة الأشهر التالية لصدورها طبقاً للمادة 211
إجراءات ، أو لم تقرر غرفة المشورة إلغاءها طبقاً للمادة 210 إجراءات.
[6] فلا تملك النيابة العامة
إصدار أمر إحالة جديد بوصف جديد للتهمة ، وكل ما لها أن تطلب من المحكمة تعديل وصف
التهمة. وطبقاً للمادة 214 مكرراً إذا صدر بعد صدور الأمر بالإحالة ما يستوجب
إجراء تحقيقات تكميلية فعلى النيابة العامة أن تقوم بإجرائها وتقدم المحضر إلى
المحكمة.
[7] د/ أحمد فتحى سرور –
القانون الجنائى الدستورى – دار الشروق 2006 – ص 557 وما بعدها.
تعليقات
إرسال تعليق