مبدأ أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته ثبوتاً قطعياً (أصل البراءة)

كانت العقوبة فى المجتمعات البدائية وسيلة للانتقام وكان الفرد هو الخصم والحكم فى آن واحد يأخذ حقه أو ما يعتقد أنه حقه بيديه بل إن فكرة الانتقام كانت تمتد لتغطى الإنسان والحيوان والأشياء ، ولم يكن فى ظل هذه الأجواء مجال للجدل حول افتراض براءة المتهم من عدمها فقد كان المتهم يؤخذ بالشبهة والظن ، وتفرض بحقه العقوبات القاسية والتى لم تكن قائمة على أسبابها أو متناسبة مع مقدماتها.

ومع تطور الفكر الانسانى تدريجياً أصبحت هناك فرصة للمتهم للدفاع عن نفسه ، ولكنها كانت فرصة مبنية على افتراض الإدانة مقدماً ، حيث يقع على عاتق المتهم عبء إثبات العكس بأن يقدم الدليل على أنه برئ فعليه يقع عبء الإثبات وغالباً ما يرتبط ذلك بطقوس دينية ومنها اليمين والتعذيب والقتال بين الخصمين.

أما فى القانون الرومانى فقد افترضت براءة المتهم فى ظل إجراءات المرافعة الشفوية وكان على الخصم أن يقدم الدليل على ما يخالف هذا الافتراض ، وقد أمر الإمبراطور أنطونيوس بأن يفسر الشك لمصلحة المتهم وأن يكون الإنسان بريئاً حتى تثبت إدانته.

إلا أن هذا المبدأ واجه ردة بعد اتباع قضاة روما نظام المرافعات المكتوبة حيث كان القاضى يفرض فى المتهم الجرم ابتداء ويطلب منه تقديم إيضاحات عن الجرم المنسوب إليه فأضحى عبء إثبات براءته يقع على عاتقه.

وفى أوروبا فى القرن الثالث عشر والرابع عشر ظهر ما يعرف بمحاكم التفتيش البابوية لمحاكمة من اتهموا بممارسة السحر والهرطقة واعتمدت هذه المحاكم الدينية قواعد إجرائية مجافية لأبسط قواعد العدالة ، فالأصل فيها أن المتهم مذنب حتى تثبت براءته ، ومورس التعذيب بأبشع صورة لانتزاع الاعتراف ، وتكتفى المحكمة لتكوين قناعتها بالاستماع إلى شاهد أو شاهدين ، وأسوأ ما فى الأمر أنه لم يكن بالإمكان مناقشة الشاهد أو مشاهدته لأنهم فى الغالب من المخبرين السريين مما لا يتيح للمتهم إبداء دفعه ببيان أن هناك سبباً كيدياً أو انتقامياً للشهادة ، وكانت تبعات الحكم تمتد إلى أبناء المحكوم عليه حيث تصادر أملاكهم ويحرموا من تولى بعض الوظائف المهمة.

أما فى الشريعة الإسلامية فتعد قاعدة الأصل فى الأشياء الإباحة وفى الإنسان البراءة من القواعد الأصولية إذ أن القضاء بإدانة الفرد هو أمر خطير لأنه يؤدى إلى مجازاته فى شخصه أو ماله أو فى الأثنين معاً لذا كان من اللازم أن يكون إسناد الفعل إلى المتهم مؤكداً أو مبنياً على الجزم واليقين وفى هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم "ادرءوا الحدود بالشبهات فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة"[1].

ومن ذلك أيضاً قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه "لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات" ويعد ذلك تطبيقاً لما ورد بالآية الكريمة رقم 28 من سورة النجم "وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" [2].

وقد نصت المادة (11) من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المؤرخ 10/12/1948 على أن: "كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن يثبت ارتكابه لها قانوناً في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه".

وقد نصت المادة (14/2) من العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2200 المؤرخ 16/12/1966 على أن: "من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئاً إلى أن يثبت عليه الجرم قانوناً".

وقد نصت المادة (67) من دستور عام 1971 على أن: "المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه ..." ، كما ردد دستور عام 2012 نفس المبدأ في المادة (77) منه ونعتقد أن أى دستور قادم لابد له من إدراج هذا المبدأ وهذه الضمانة الهامة.

وقد ذهبت المحكمة الدستورية العليا إلى أن البراءة هى أصل وليست مجرد قرينة وذلك بأن قضت بأن افتراض البراءة لا يتمخض عن قرينة قانونية ، ولا هو من صورها ، ذلك أن القرينة تقوم على تحويل للإثبات عن محله الأصلى ممثلاً في الواقعة مصدر الحق المدعى به إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها. وليس الأمر كذلك بالنسبة للبراءة التى افترضها الدستور فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى أقامها بديلاً عنها. وعندما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التى جبل الإنسان عليها فقد ولد حراً مبرءاً من الخطيئة أو المعصية ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لازال كامناً فيه مصاحباً له فيما يأتيه من أفعال إلى أن تنفى محكمة الموضوع هذا الافتراض بقضاء جازم يصدر على ضوء الأدلة التى تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التى نسبتها إليه في كل ركن من أركانها ، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها بما في ذلك القصد الجنائى بنوعيه إذا كان متطلباً فيها وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة ، إذ هو من الركائز التى يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور ، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل واضحة وضوح الحقيقة ذاتها تقتضيها الشرعية الإجرائية ويعتبر إنفاذها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية ، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل ، أو بما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشؤها[3].

وقد قضت المحكمة الدستورية العليا أيضاً بأن أصل البراءة مفترض في كل متهم ، فقد ولد الإنسان حراً ، مطهراً من الخطيئة ودنس المعصية لم تنزلق قدماه إلى شر ، ولم تتصل يداه بجور أو بهتان. ويفترض وقد كان سوياً حين ولد حياً ، أنه ظل كذلك متجنباً الآثام على تباينها ، نائياً عن الرذائل على اختلافها ، ملتزماً طريقاً مستقيماً لا يتبدل اعوجاجاً. وهو افتراض لا يجوز أن يهدم توهماً ، بل يتعين أن ينقض بدليل مستنبط من عيون الأوراق وبموازين الحق ، وعن بصر وبصيرة. ولا يكون ذلك كذلك إلا إذا أدين بحكم انقطع الطريق إلى الطعن فيه ، فصار باتاً [4].

ويترتب على مبدأ أصل البراءة نتيجتين هامتين:

الأولى: وقوع عبء الإثبات على النيابة العامة:

لما كان الأصل في المتهم البراءة فإن إثبات التهمة قبله يقع على عاتق النيابة العامة فعليها وحدها عبء تقديم الدليل. ويخضع إثبات التهمة إلى قواعد تحكم إدارة الدليل بعيداً عن المتهم الذى لا يلتزم بتقديم أى دليل على براءته ، وكل ما له هو أن يناقش أدلة الإثبات التى تتجمع حوله لكى يفندها أو يضع فيها بذور الشك ، دون أن يلتزم بتقديم أدلة إيجابية تفيد براءته [5].

وإذا كان عبء الإثبات يقع على النيابة العامة بوصفها ممثلة للادعاء ، إلا أن ذلك ليس معناه أن مهمتها قاصرة على إثبات التهمة فقط ، لأن وظيفتها هى إثبات الحقيقة بجميع صورها سواء فيما يتعلق بركنى الجريمة أو بشروط المسئولية. وعلى المحكمة أيضاً أن تبحث بنفسها من خلال إجراءات المحاكمة عن هذه الحقيقة دون أن تجشم المتهم عبء إثبات البراءة. فهذه البراءة أمر مفترض ولا محل لإثباتها أمام المحكمة. وكل ما هو جدير بالبحث هو التحقق مما إذا كانت هناك أدلة كافية يمكنها أن تدحض هذا الأصل أم لا.

فإذا توافرت أدلة تفيد صحة الاتهام ، كان من حق المتهم تقديم ما لديه من أدلة لدحض ما توافر ضده. وعلى النيابة العامة وعلى المحكمة جمع هذه الأدلة أيضاً عند الاقتضاء لأن مهمتها هى كشف الحقيقة بجميع صورها. فإذا خلت الدعوى من دليل قاطع على صحة الاتهام لا يلتزم المتهم بتقديم أى دليل على براءته لأن الأصل فيه هو البراءة [6].

الثانية: تفسير الشك لصالح المتهم:

يقصد بالشك عدم اليقين حول حقيقة الواقعة أو نسبتها إلى المتهم فمن يتوافر لديه الشك يكون اقتناعه موزعاً بين أمرين: وقوع الفعل أو عدم وقوعه ونسبة الفعل إلى المتهم أو عدم نسبة الفعل إليه. فالشك لا يوصل صاحبه إلى الحقيقة إلا بوسيلة ناقصة ، بل يغلق الطريق أمام معرفة الحقيقة بسبب عدم القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف.

وفيما يتعلق بالإثبات يجب تفسير الشك لمصلحة المتهم فهذا الشك يعنى إسقاط أدلة الإدانة والعودة إلى الأصل العام وهو البراءة عند توافر الشك في هذه الأدلة.

وهذا المبدأ نتيجة طبيعية لمعيار الجزم واليقين كأساس للحكم بالإدانة لا مجرد الظن والاحتمال. ومن ثم فإن كل شك في الاقتناع يجعل الحكم بالإدانة على غير أساس. فالشك يجب أن يستفيد منه المتهم ، لأن الأصل فيه هو البراءة. وتبسط محكمة النقض رقابتها على هذا الموضوع من خلال مراقبتها لصحة الأسباب فمن المقرر أن مبدأ حرية القاضى فى الاقتناع لا يعنى فقط أنه حر في أن يعتقد أو لا يعتقد في صحة الأدلة المقدمة ، وإنما يعنى أيضاً أنه لا يملك الخروج على ضوابط الاقتناع ، ولا يستطيع القضاء بغير اليقين. فإذا كان مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات قد حسم الشك حول التجريم والعقاب فإن مبدأ اليقين القضائى قد حسم الشك حول معيار الوصول إلى الحقيقة القضائية.

وبناء على مبدأ تفسير الشك لصالح المتهم يكفى لصحة الحكم بالبراءة أن يتشكك القاضى في صحة إسناد التهمة [7] إلا أن الاكتفاء بمجرد الشك في إثبات التهمة مشروط بأن يشمل الحكم بالبراءة ما يفيد أن المحكمة قد أحاطت بظروف الدعوى وأدلة الثبوت التى قام عليها الاتهام عن بصر وبصيرة ووازنت بينها وبين أدلة النفى فرجحت دفاع المتهم أو داخلتها الريبة في صحة أدلة الإثبات [8].

وهنا يجب ملاحظة الخلاف بين الحكم بالإدانة أو الحكم بالبراءة فيما يتعلق ببيان الأدلة فالحكم الأول يجب أن يستوفى مضمون الأدلة التى بنى عليها بخلاف الحكم الثانى فإنه يكفى فيه مجرد إبداء الرأى حول قيمة أدلة الإثبات دون أن تلتزم المحكمة ببيان أدلة قاطعة على البراءة ، لأنه يكفى مجرد تشككها في الاقتناع بأدلة الإثبات ، أى أن الحكم بالإدانة يجب أن يبنى على اليقين في الاقتناع بأدلة الثبوت بينما حكم البراءة يكفى فيه أن يؤسس على الشك في الاقتناع بهذه الأدلة [9].

ويكفى للتدليل على الشك عند القضاء بالبراءة الاستناد إلى أى دليل ولو كان وليد إجراء غير مشروع وهذا ما أكدته محكمة النقض. وعلة ذلك أنه طالما كان الأصل في المتهم البراءة فلا حاجة للمحكمة في أن تثبت براءته وكل ما تحتاج إليه هو أن تتشكك في إدانته.

والدليل المستمد من إجراء غير مشروع هو دليل باطل فيما يتعلق بإثبات الإدانة لأن الإدانة عكس الأصل العام في الأشياء وهو البراءة بخلاف الحال في البراءة فإنها تمثل الأصل العام [10].



[1] الدكتور/ جعفر جوا الفضلى – المتهم وحقوقه فى الشريعة الإسلامية – أبحاث الندوة العلمية الأولى – المركز العربى للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض 1406 هـ - بحث بعنوان أصل البراءة فى الشريعة الإسلامية – ص189.

[2] الدكتور/ عبد المنعم سالم شرف الشيبانى – الحماية الجنائية للحق فى أصل البراءة – ص634.            

[3] حكم المحكمة الدستورية العليا فى الطعن رقم 5 لسنة 15 ق جلسة 10/5/1995 – مكتب فنى 6 – جزء 1 – ص686

[4] الطعن رقم 26 لسنة 12 قضائية – جلسة 5/10/1996.

[5] وهذا ما أكده المجلس الدستورى الفرنسى فى 11 ، 20 يناير سنة 1981.

[6] د/ أحمد فتحى سرور – القانون الجنائى الدستورى – دار الشروق 2006 – ص300

[7] نقض 26 نوفمبر سنة 1964 – مجموعة الأحكام – س15 – رقم132 – ص668 ، أول مارس سنة 1965 – س16 – رقم 39 – ص179 ، 28 يونية سنة 1965 – س16 ،122 – ص524 ، 19 أكتوبر سنة 1965 – س16 – رقم 137 – ص724 ، 9 نوفمبر سنة 1956 – ص832.

[8] نقض 26 نوفمبر سنة 1962 – مجموعة الأحكام – س13 – رقم 187 – ص767.

[9] د/ أحمد فتحى سرور – النقض فى المواد الجنائية – ص279

[10] د/ أحمد فتحى سرور – الوسيط فى قانون الإجراءات الجنائية – طبعة 1970 – ص348.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قاعدة تقيد المحكمة بحدود الدعوى

مبدأ المساواة بين الدفاع والادعاء (مساواة السلاح)

عدم جواز محاكمة المتهم أو معاقبته مرة ثانية عن جريمة سبق أن صدر فى حقه حكماً باتاً فيها