حق المتهم فى الاستعانة بمحام للدفاع عنه وإتاحة الوقت الكافى له لإعداد دفاعه وحرية اتصاله بمحاميه وضمان سرية هذه الاتصالات:

إن حق الدفاع من الحقوق الهامة التى تحظى باهتمام فائق ودائم لتطويره وحمايته نظراً لخطورة القضايا المتعلقة به والنتائج المترتبة عليه كما أنه يشكل ركيزة جوهرية للمحاكمات المنصفة التى يشكل نظامها بما يتضمن من قواعد وضوابط لحماية المتقاضين المعيار الأساسى لدولة القانون.

فحق الدفاع ليس من الحقوق التى تمس شخص المتهم فقط بل إنه من الحقوق التى تمس كيان العدالة ذاتها فدور الدفاع يتعدى مجرد مساعدة المتهم إلى أن يصبح دوراً شريكاً في تحقيق العدالة ، فالعدالة دون الدفاع هى عدالة ذات اتجاه واحد لا ترى إلا بعين واحدة.

وقد اختلف الفقهاء حول تحديد ماهية حق الدفاع فذهب البعض إلى القول بأن حق الدفاع هو حق المتهم في محاكمة عادلة مؤسسة على إجراءات مشروعة ، وذهب رأى إلى القول "بأن حق الدفاع هو تمكين المتهم من أن يعرض على قاضيه حقيقة ما يراه في الواقعة المسندة إليه ويستوى في هذا الصدد أن يكون منكراً مقارفته للجريمة المسندة إليه أو معترفاً بها ، فهو وإن توخى من وراء إنكاره الوصول إلى تأكيد براءته ، فقد يكون اعترافه مبرراً ما أحاط به من ظروف وملابسات قد يكون من بينها ما يدل على أنه كان في حالة دفاع شرعى أو ما يبين بعض الظروف المعفية من العقاب أو المخففة له" [1].

كما عرفت حقوق الدفاع بأنها "مفهوم مجرد عبر عنه (القانون الوضعى) بأنه عبارة عن مجموعة من الامتيازات الخاصة أعطيت إلى ذلك الذى يكون طرفاً في الدعوى الجنائية [2]".

فى حين يعرف البعض الآخر حقوق الدفاع بأنها "تلك المكنات المستمدة من طبيعة العلاقات الإنسانية والتى لا يملك المشرع سوى إقرارها بشكل يحقق التوازن بين حقوق الأفراد وحرياتهم ومصالح الدولة وهذه المكنات تخول للخصم – سواء أكان طبيعياً أو معنوياً إثبات ادعاءاته القانونية أمام القضاء والرد على كل دفاع مضاد في ظل محاكمة عادلة يكفلها النظام القانونى [3]".

نشأة حق الدفاع[4]:

هذا الحق أجمعت عليه كافة الشرائع – من ناحية المبدأ بالأقل – ولعل أصله مستمد من حق الإنسان الطبيعى فى الدفاع عن نفسه من كل أذى يتهدده فى حياته أو فى صحته أو فى ماله أو فى حريته.

كما هو مستمد من تلك القاعدة الحكيمة التى استقرت فى كافة الشرائع الحديثة وهى أن الأصل فى الإنسان البراءة لا الإدانة وهى قاعدة جوهرية ترتب أخطر النتائج وألزمها لتحقيق العدالة القضائية على قدر طاقة البشر ، وهى أبداً طاقة محدودة ومقيدة بعوامل متنوعة.

ولقد أضحت إتاحة الفرصة الكافية لحق الدفاع حقاً مكتسباً للإنسان فى كل تشريع حديث ، لا ينازع فيه أحد إلا إذا تغلبت روح السلطة على روح العدالة ، وإلا إذا ساد أسلوب الطغيان الأعمى على أسلوب الحق المبصر.

ومنذ أقدم العصور وجد الباحثون فى الآثار على قبر تحتمس الثالث (حوالى سنة 1500 قبل الميلاد) ، هذه التوجيهات الحكيمة الصادرة منه إلى رئيس القضاة "ويكيماير" عند تعيينه: "أن اعمل ما يطابق القانون ، ولا تتحيز ، لأن التحيز يغضب الله ، ولا ترفض الإنصات إلى من يشكو ، فلا تهز له رأسك عندما يتحدث ، ولا تعاقب أحداً قبل أن تسمع دفاعه عما ستعاقبه عليه. وأن مما يبعث على غضبى أن تضار العدالة".

ولم يرتفع حق الدفاع ، أو بالأدق حق الاستعانة بمدافع إلى المستوى المطلوب فى الحضارات القديمة. فمثلاً فى مصر الفرعونية رغم تقدم الأنظمة القضائية تقدماً كبيراً لا يزال يستلفت أنظار المؤرخين بالنظر إلى الضمانات الوفيرة التى كانت تمنحها للمتقاضين ، وللمتهمين بوجه خاص ، إلا أنه فى خصوص المرافعات الشفهية بالذات يقول ديوديور الصقلى: أن المصريين كانوا يعتقدون أن المرافعات الشفهية قد تضلل العدالة لأن: "براعة الخطباء وسحر بيانهم أمور قد تدفع القضاة إلى التغاضى عن صرامة القانون وقوة الحق ولذا فإنه إذا قدم المتقاضون عرائضهم كتابة كانت المحاكمة أكثر دقة وعدلاً".

ولكنهم فى نفس الوقت كانوا يتبعون مبدأ كتابة مذكرات بدفاع الخصوم ... وكانت تدون هذه المذكرات بمعرفة الكهنة فيما يبدو ، خصوصاً وأن غالبية المتقاضين لم تكن تعرف الكتابة وكانت الكتابة تدرس فحسب بواسطة الكهنة لأبنائهم وأبناء النبلاء والأثرياء منهم وهم ليسوا بالكثيرين.

ويبدو وأن المحاماة فى مفهومها الحديث ظهرت لأول مرة عند الإغريق عندما تعقدت الإجراءات القضائية ، وظهر نظام المحلفين ، وتبين أنهم يميلون للتأثر بالخطب المطولة البليغة فنشأت عادة استخدام خطيب قدير ملم بالقانون لكى يحضر مع الخصم فى أثناء دعواه المدنية أو الجنائية.

وكان يسمح للأطراف أو المحامين بمدتين فى الدعوى تحدد باستخدام الساعة المائية. وكان الخطباء يتكلمون بكامل حريتهم ، ولو اقتضى الأمر استخدام ألفاظ السباب والشتائم وتوجيهها للخصم.

ولعل هذا الوضع العجيب هو أصل العذر المعفى الذى تعرفه الآن غالبية الشرائع للخصم فى الدعوى إذا تطاول بألفاظ معاقب عليها ضد خصمه ، وذلك لكفالة حق الدفاع على أقوى صوره.

ومن الطريف أنه لم يكن يوجد مانع من أن يكتب خطيب واحد مرافعات الطرفين معاً. وقد نسب إلى ديموستين الخطيب الإغريقى الكبير ذلك ، ثم ظهر فيما بعد مبدأ عدم جواز اشتراك المحامى أو الخطيب فى خدمة الطرفين معاً ... واستقر ذلك عند الرومان لما استقرت دعائم مهنة المحاماة بعد نشر قانون الألواح الاثنى عشر فى سنة 450 قبل الميلاد. وبعد ذلك تمت المساواة بين الأشراف والعامة وأصبح للجميع امتياز الاستعانة بمحام حتى وصلت مهنة المحاماة فى عصر الإمبراطورية إلى حالة شبيهة بوضعها الحالى من ناحية تطلب شروط خاصة ، ومن ناحية تقاليد المهنة وعلو مكانتها ، ناهيك بتكوين نقابات خاصة بها ، بالإضافة إلى ظهور التمييز تدريجياً بين المحامين والفقهاء.

فالخطابة انتقلت من الإغريق إلى الرومان ، ومن ديموستين إلى شيشرون الخطيب القدير ، والفيلسوف الرواقى المذهب ، ولكن الأمر الجديد عند الرومان والذى لم يكن معروفاً عند الإغريق هو أنه عند الرومان أصبح تدريجياً على الخطيب أن يدرس القانون وأن يتحول إذا شاء من خطيب إلى فقيه.

وكان المدافعون فى مبدأ الأمر يعاونون الخصم أدبياً وخطابياً وكانوا يجهلون القانون فى المعتاد ، بل كانوا أحياناً لا يحسنون حتى إتقان الخطابة ، ولذا احتاجوا لمساعدة أشخاص غيرهم من ذوى الإلمام بالقانون ، وآخرين من ذوى الملكات الخطابية وهؤلاء هم المحامون الذين كانوا يحضرون بوجه خاص فى الدعاوى الجنائية. وهكذا ظهر الفارق تدريجياً بين المحامى والمترافع فى الجلسة.

وهذه التفرقة اختفت تدريجياً باندماج المهنتين معاً منذ أوائل عهد الإمبراطورية ، وأصبح يطلق على المحامين بوجه عام وصف Cansidcus  ومع الوقت أصبح المحامى فقيها ، ونائباً ، وخطيباً فى الجلسة[5].

ثم تطورت مهنة المحاماة فأصبح القانون يتطلب توافر مؤهلات دراسية صادرة من المعاهد المتخصصة عندهم فى تدريس القانون. كما عرفت نقابات المحامين بمفهومها الحديث وكان لأعضائها الحق فى احتكار ممارسة المهنة. كما عرف الرومان نظام ندب المحامين للدفاع بلا أى مقابل مادى عن المتهمين الفقراء والمعوزين. وهكذا يبين أن القانون الرومانى قد أورثنا نظام المحاماة السائد حالياً فى جوهره ، واسم المحاماة ، واسم العميل فى اللغات ذات الاشتقاق اللاتينى ، كما أورثنا الكثير من تقاليد المحاماة.

أما عند العرب فإنه قد أجاز الفقهاء التوكيل بالخصومة فى مطالبة الحقوق ، وإثباتها والمحاكمة فيها وهو رأى الأئمة الكبار مالك والشافعى ، ومحمد ، وأبى يوسف صاحبى أبى حنيفة إلا أن أبا حنيفة يشترط للقيام بهذه الوكالة رضاء الخصم الآخر بالتوكيل. ويمكن القول بأنه يجوز التوكيل للخصومة فى إثبات الدين والعين وسائر الحقوق عدا القصاص بلا خلاف. كما يجوز التوكيل بالتعزير إثباتاً واستيفاء بالاتفاق. وللوكيل أن يستوفى الحق لموكله سواء أكان الموكل حاضراً أم غائباً. ويرى صاحب (المغنى) جواز التوكيل فى المطالبة بالحقوق وإثباتها بغير رضاء الخصوم لأن إجماع الصحابة على ذلك ، إذ أن علياً وكل عقيلاً عند أبى بكر ، كما وكل عبد الله ابن أبى جعفر عند عثمان ، زيادة على أن الحاجة تدعو إلى ذلك ، إذ لا يحسن صاحب الحق الخصومة ، أو لا يرغب فى أن يتولاها بنفسه[6].

وقد كانت الوكالة المأجورة فى الخصومة موجودة فى ديار الإسلام منذ القرن الثانى الهجرى ، ومنذ عهد قاضى القضاة الإمام أبى يوسف ، حيث جاء فى المنظومة الوهابية أن الوكيل كان يتعاطى لقاء مرافعته درهمين عن كل جلسة.

بل لقد وجد فى الفقه الإسلامى ما يمكن تكييفه بأنه انتداب للوكالة فى الخصومة كان يباشره القاضى ، وهو ما يعرف بالاعداء ، والذى كان يأخذ به صاحب أبى حنيفة الإمامان أبو يوسف ومحمد ، وكان يتبع بالنسبة للمدعى عليه الذى دعى للحضور لمجلس الحكم فامتنع عن ذلك فكان القاضى يبعث رسولاً ينادى على باب الخصم الممتنع ومعه شاهدان. وينادى الرسول ثلاثة أيام ، كل يوم ثلاثة مرات بدعوة القاضى له بالحضور مع خصمه مع إنذاره بأنه إذا تخلف عن الحضور ينصب عليه وكيلاً وتسمع البينة ضده فى حضور الوكيل المنتدب.

وكان الاعداء يتم شفاهة فى أول الأمر ، ثم صار يتم كتابة فى العصور التالية. وكان ذلك الوكيل المنصوب يتقاضى أجراً لقاء عمله ، كما أننا إذا اعتبرنا احتراف التوكيل فى الخصومة مطابقاً للمحاماة بمعناها الحالى ، فيمكن القول بأنها عرفت فى الفقه الإسلامى فى القرن الرابع الهجرى ، فقد جاء فى ترجمة أحد حفاظ الحديث فى ذلك العصر أنه كان "يتوكل بين يدى القضاة" كما يفيد ذلك أنه كانت منهم فئة ذات مكانة محترمة ، إذ لم يكن الحديث يؤخذ إلا عن الثقات[7].

وحق الدفاع نصت عليه كل الوثائق العالمية ومعظم الدساتير في العالم ولا يكاد يخلو منه قانون فقد نصت المادة (11/1) من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على أن: "كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه".

وقد نصت المادة (14/3) من الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية على أن "لكل فرد عند النظر في أية تهمة جنائية ضده الحق فى الضمانات التالية كحد أدنى مع المساواة التامة: أ) .... ، ب) أن يعطى من الوقت و من التسهيلات ما يكفيه لإعداد دفاعه و للاتصال بمحام يختاره بنفسه ، ج) ....... ، د) أن يحاكم حضوريا و أن يدافع عن نفسه بشخصه أو بواسطة محام من اختياره ، و أن يخطر بحقه فى وجود من يدافع عنه إذا لم يكن له من يدافع عنه ، و أن تزوده المحكمة حكما ، كلما كانت مصلحة العدالة تقتضى ذلك ، بمحام يدافع عنه ، دون تحميله أجرا على ذلك إذا كان لا يملكك الوسائل الكافية لدفع هذا الأجر ....".

وقد نصت المادة (67/2) من دستور عام 1971 على أن: "وكل متهم فى جناية يجب أن يكون له محام يدافع عنه".

كما نصت المادة (69) من دستور عام 1971 على أن: "حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول ويكفل القانون لغير القادرين مالياً وسائل للالتجاء إلى القضاء والدفاع عن حقوقهم".

كما نصت المادتين (77) ، (78) من دستور عام 2012 على ذات المضمون ، ونصت المادة (237/2) على أن: "وإذا لم يكن للمتهم الحاضر في جنحة معاقب عليها بالحبس وجوباً محام وجب على المحكمة أن تندب له محامياً للدفاع عنه".

وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالدفاع عن الحق والمساواة بين الخصوم فقد قال الله تعالى في الآية (38) من سورة الحج: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ"

ويضرب الله لنا المثل فى أهمية الدفاع عن الذين آمنوا فيكون بذلك هو المدافع الأول عن المؤمنين. وفى رسالة عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أبى موسى الأشعرى في أمر القضاء قال: "... وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضاءك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك" ومن أهم أسس المساواة في القضاء المساواة بين الخصوم وكيف يكون الخصوم متساويين إذا لم يكفل للمتهم محام متمرس للدفاع عنه كما أن للادعاء ممثل محترف يقوم بهذه المهمة.

وكذلك فإن علياً رضى الله عنه قد قام فى العديد من المواقف بدور الدفاع فقد ذكر أن عمر رضى الله عنه أتى بامرأة زنت وأقرت بذلك فأمر برجمها فقال على رضى الله عنه لعل لها عذر ، ثم قال لها ما حملك على ما فعلت ، قالت كان لى خليط (شريك في إبله ماء ولبن ولم تكن في إبلى ماء ولا لبن فظمئت فاستسقيته فأبى أن يسقينى حتى أعطيه نفسى فأبيت عليه ثلاثاً فلما ظمئت وظننت أن نفسى ستخرج أعطيته الذى أراد فسقانى. فقال على رضى الله عنه الله أكبر "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه".

وقد قضت المحكمة الدستورية العليا: "إن الحرية فى أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة وأن إساءة استخدام العقوبة تشويهاً لأهدافها يناقض القيم التى تؤمن بها الجماعة فى اتصالها بالأمم المتحضرة وتفاعلها معها. ولا يكفى بالتالى أن يقرر المشرع لكل متهم حقوقاً قبل سلطة الاتهام ، توازنها وتردها إلى حدود منطقية بل يتعين أن يكون ضمان هذه الحقوق مكفولاً من خلال وسائل إجرائية إلزامية يملكها ويوجهها من بينها – بل وفى مقدمتها – حق الدفاع بما يشتمل عليه من الحق في الحصول على مشورة محام والحق في دحض الأدلة التى تقدمها النيابة العامة إثباتاً للجريمة التى نسبتها إليه بما في ذلك مواجهته لشهودها واستدعاؤه لشهوده وألا يحمل على الإدلاء بأقوال تشهد عليه"[8].

وقد صار حق الدفاع مدخلاً لحماية حقوق المواطنين وحرياتهم من استبداد السلطة وعسفها وثيق الصلة بالوسائل القانونية السليمة واقعاً في إطار الحماية القانونية المتكافئة التى لا تزيد بها فرص الاتهام على حقوق متهمها قرين حق الأفراد جميعهم في اللجوء إلى القضاء كافلاً رد كل عدوان على حقوقهم وحرياتهم مبلوراً الدور الاجتماعى للسلطة القضائية بوصفها الحارس الأصيل على الحرية والحقوق على اختلافها ناقلاً قيم الخضوع للقانون من مجالاتها النظرية إلى تطبيقاتها العملية مشمولاً بالحرية المنظمة فى جوهرها وتطبيقاتها كامناً في النفس وغائراً فى أعماقها بعيداً عن أن يكون ترفاً أو لهواً متصلاً بالحقائق الموضوعية دون إغراق فى أهدابها الشكلية موافقاً معنى العدالة ملبياً متطلباتها.

ومن ثم لم يجز الدستور أن يتدخل المشرع فى شأن ضمانة الدفاع بما يرهقها أو يسقطها أو يقوض الأغراض المقصودة منها. ذلك أن الحقوق جميعها لا تقوم لها قائمة بدونها. بل إن حق الفرد فى اللجوء إلى قاضيه الطبيعى يغدو سراباً بغير ضمانة الدفاع التى تجلى الحقوق وتقويها وتنقيها من شوائبها بما يؤهل لوقوفها سوية على أقدامها فلا تضل طريقها بالختال أو الإهمال. وإنما يكون لكل فرد أن يعرض بصفته الشخصية وجهة نظره فى شأن الحقوق التى يدعيها أو الحرية التى يطلبها وأن يؤمنها كذلك بمحام من اختياره يطمئن إليه لثقته فيه[9].

وحق المتهم فى الاستعانة بمدافع لا يتوقف على مشيئته أو حريته بل هو أمر يتعلق بالممارسة القضائية ذاتها أمام محكمة الجنايات فهذه المحكمة التى تنظر جرائم جسيمة لابد أن تقترن المحاكمة أمامها بوجود محام عن المتهم[10].

فإذا لم يكن له محام ندبت له المحكمة محامياً يدافع عنه ويجب ألا يكون الندب لمجرد استيفاء شكل من الأشكال وإنما يجب أن يحقق الغاية التى توخى الدستور تحقيقها بأن يحقق دفاعاً فعالاً عن المتهم فلا يتحقق هذا الضمان إذا لم تتح المحكمة الوقت الكافى للمحامى المنتدب فى الدفاع عن المتهم. كما لا يتحقق الضمان المذكور إذا كان المحامى غير مسموح له بالمرافعة أمام محكمة الجنايات. وبدون احترام هذا الضمان لا تتحقق المحاكمة القانونية المنصفة أمام محكمة الجنايات. ويعد من قبيل عدم الفاعلية فى الدفاع أن يتولى محام واحد الدفاع عن متهمين رغم تعارض مصلحتهما.

هذا الضمان ليس مجرد مظهر شكلى فلا قيمة له ما لم تتوافر فيه مقومات الفاعلية وذلك على الوجه الآتى:

·         يجب أن يتمكن محامى المتهم من متابعة إجراءات المحاكمة بالجلسة من أولها إلى آخرها مما يجب معه أن يكون قد سمع الشهود قبل المرافعة فإذا سمعت الشهود فى حضور محام آخر ولما وكل عنه الدفاع عن المتهم طلب إعادة سماع الشهود فى حضوره تعين إجابته إلى طلبه تمكيناً له من إعداد دفاعه الذى يقتضى مناقشة هؤلاء الشهود[11].

وإذا استمرت المرافعة عدة جلسات وحضر المحامى إحداها وغاب البعض الآخر كانت المحاكمة باطلة.

·         الأصل أن المتهم حر فى اختيار محاميه وأن حقه فى ذلك مقدم على حق المحكمة فى تعيينه فإذا اختار المتهم محامياً فليس للقاضى أن يفتئت على اختياره ويعين له مدافعاً آخر إلا إذا كان المحامى المختار قد بدا منه أنه يعمل على تعطيل السير فى الدعوى[12].

وقد قضت المحكمة الدستورية العليا بأن اختيار الشخص لمحام يكون قادراً على تحمل أتعابه وإنما يتم فى إطار علاقة قانونية قوامها الثقة المتبادلة بين طرفيها ويتعين بالتالى أن يظل هذا الحق فى الاختيار محاطاً بالحماية التى كفلها الدستور لحق الدفاع[13].

وإذا لم يحضر المحامى الموكل عن المتهم ورفضت المحكمة تأجيل نظر الدعوى لحضوره وندبت محامياً آخر يترافع فى الدعوى فإن ذلك لا يعد إخلالاً بحق الدفاع ، مادام المتهم لم يبد أى اعتراض على هذا الإجراء ولم يتمسك أمام المحكمة بطلب تأجيل نظر الدعوى حتى يحضر محاميه الموكل[14].

وإذا كان المتهم قد وكل اثنين من المحامين للدفاع عنه واتفق المحاميان على المشاركة فى إبداء الدفاع وتقسيمه بينهما ثم حضر احداهما الجلسة وتمسك بطلب تأجيل نظر الدعوى لحضور زميله الذى حال عذر قهرى دون حضوره إلا أن المحكمة التفتت عن هذا الطلب رغم إصراره عليه اكتفاء بحضور المحامى الأول دون أن تبرر علة عدم إجابة طلب التأجيل فإن ذلك منها يعد إخلالاً بحق الدفاع[15].

·         يجب ضمان عدم التعارض بين المتهمين عند وحدة الدفاع عنهم فإذا كان فى الدعوى أكثر من متهم وتعارضت مصالحهم تعارضاً فعلياً بحيث كان الدفاع عن أحدهم يستوجب الطعن فى الآخر فيجب أن يكون لكل متهم محام خاص لأن تولى محام الدفاع عنهم ينطوى على إخلال بحقوقهم فى الدفاع[16].

فمثلاً إذا اعترف أحد المتهمين على نفسه وعلى غيره اعتبر هذا المتهم شاهد إثبات ضد المتهم الآخر فلا يجوز أن يتولى محام واحد المرافعة عن المتهمين المذكورين[17].

·         أن المتهم فى الدعوى هو الخصم الأصيل فيها أما المحامى فمجرد مساعد له فحضور محام مع المتهم لا ينفى حق هذا الأخير فى أن يتقدم بما يعن له من دفاع أو طلبات وعلى المحكمة أن تستمع إليه ولو تعارض ما يبديه المتهم من وجهة نظر محاميه وعليها أن ترد على دفاعه طالما كان جوهرياً[18].

·         يجب أن يكون المحامى قادراً على الدفاع ، إن اشتراط حضور محام مع المتهم فى جناية يجب أن يكون فعالاً ، وهو ما لا يتيسر إلا إذا كان المحامى قادراً على الدفاع عن المتهم. فلا يجوز تشويه هذا الضمان واعتباره مجرد مظهر شكلى خال من المضمون. وتطبيقاً لذلك فإن المحامى لا يعد قادراً على الدفاع إذا كانت المحكمة قد انتدبته فى الجلسة ولم تتح له الوقت الكافى للاطلاع حتى ولو قبل المحامى ذلك ، أو إذا ثبت أن المحامى كان جاهلاً بالقانون الذى يحاكم المتهم بمقتضاه ، أو أن يطلب من المتهم فى ختام المرافعة أن يعترف بالتهمة دون مبرر ، أو أن ينضم فى الاتهام نظراً لبشاعة التهمة فذلك موقف عاطفى انفعالى خال من أى مضمون للدفاع ، على أنه لا يمس قدرة المحامى على الدفاع أن يطلب الرأفة بالمتهم بدلاً من الحكم ببراءته[19] ، أو أن يكتفى بالانضمام إلى زميله المحامى[20].

حق المتهم فى الاتصال بمحاميه فى إطار من السرية:

يجب أن تجرى الاتصالات بين المتهم ومحاميه فى إطار من السرية ويجب أن تضمن السلطات أن تظل هذه الاتصالات محاطة بالسرية.

وتقضى المادة (22) من المبادئ الأساسية الخاصة بدور المحامين والتى اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المعقود في هافانا من أغسطس إلى 7 سبتمبر 1990 بأن "تعترف الحكومات بضرورة الحفاظ على سرية جميع الاتصالات بين المحامين وموكليهم التى تتم فى نطاق العمل المهنى وأن تحترم سريتها".

وقد فسرت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان المادة 14/3 من العهد الدولى التى تضمن الحق فى الاتصال بالمحامين بقولها "أن هذه المادة تلزم المحامى بالاتصال بالمتهم فى ظل أوضاع توفر الاحترام الكامل لسرية هذه الاتصالات".

وبالنسبة للمحتجزين يتعين على السلطات أن توفر لهم مساحة كافية من الزمن وتسهيلات مناسبة للالتقاء بالمحامين والحفاظ على سرية الاتصالات بينهم سواء أكان لقاءاً مباشراً أو عن طريق الهاتف أو الخطابات. ويجوز أن تجرى هذه اللقاءات أو الاتصالات الهاتفية تحت بصر وليس سمع الآخرين.

وقالت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان أنه حينما وجدت إجراءات مفرطة فى البيروقراطية تجعل من العسير الاتصال بالمحامين فإن الشروط المقررة فى المادة 14 من العهد الدولى لا تتحقق.

ولا يجوز الأخذ بالمراسلات المتبادلة بين المحامى وموكله كدليل للإدانة ما لم تتصل بجريمة مستمرة أو يدبر لارتكابها[21].

وقد نصت المادة 39 من القانون رقم 396 لسنة 1956 فى شأن تنظيم السجون على أن: "يرخص لمحامى المسجون فى مقابلته على انفراد بشرط الحصول على إذن كتابى من النيابة العامة ومن قاضى التحقيق فى القضايا التى يندب لتحقيقها سواء كانت المقابلة بدعوة من المسجون أم بناء على طلب المحامى".

الإحاطة بالتهمة وأدلتها:

الدفاع لا يكون فعالاً ما لم يكن للمتهم حق فى أن يعلم بكل ما يتعلق به فى الدعوى. وبدون هذه المعرفة يضحى حق الدفاع مشوباً بالغموض فاقد الفاعلية. فلا يجوز أن تجمع الأدلة وتفحص أو تناقش فى غيبة من الدفاع. وتتطلب فاعلية هذا الضمان كفالة وقت معقول حتى يتسنى للمتهم أن يحضر دفاعه عن بصر وبصيرة. ولهذا كان حق الاطلاع مبدأ مهماً من مبادئ حق الدفاع. وقد قضت محكمة التحكيم البلجيكية أن حق الدفاع يتطلب إمكانية الاطلاع على عناصر الدليل الذى جمعه الاتهام ما لم تتطلب غير ذلك مصالح متعارضة مثل الأمن القومى ، وضرورة حماية الشهود أو المحافظة على سرية منهج التحقيق مما يجب معه إجراء التوازن بينها وبين حق الدفاع[22].

وقد أكدت هذا الحق المادة (71) من دستور عام 1971 وقد أشارت المادة 14/3 (أ) من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية لهذا الحق فيما تطلبته من إبلاغ الفرد فوراً وبالتفصيل وفى لغة مفهومة لديه بطبيعة وسبب التهمة الموجهة إليه ، وقد قضت المحكمة الدستورية الإيطالية فى 23 سبتمبر سنة 1998 بعدم دستورية النص الذى يجيز إعلان الأعمال الإجرائية بواسطة البريد ، وأنه بالرغم من سلطة المشرع التقديرية فى تحديد وسائل الإعلان ، إلا أن جواز الإعلان بطريق البريد يصطدم بالحد الذى لا يمكن تجاوزه من احترام حقوق الدفاع لأنه يحول دون إحاطته بمضمون الإعلان ، وقد أكد المجلس الدستورى الفرنسى على أن حقوق الدفاع تتضمن تمكين المتهم قبل الحكم عليه من الإحاطة بالوقائع المنسوبة إليه مما يمكنه من تقديم ملاحظاته[23].



[1] د/ حسن صادق المرصفاوى – ضمانات المحاكمات فى التشريعات العربية – مطبعة محرم بك الاسكندرية – سنة 1973 – ص92.

[2] د/ هلالى عبد الله أحمد – المركز القانونى للمتهم فى مرحلة التحقيق الابتدائى – دراسة مقارنة فى الفكر الجنائى الإسلامى – دار النهضة العربية – القاهرة 1989 – ص138.

[3] د/ محمود صالح العادلى – حق الدفاع أمام القضاء الجنائى – دراسة مقارنة فى القانون الوضعى والفقه الإسلامى – رسالة دكتوراة – جامعة القاهرة 1991 – ص23.

[4] د/ رؤوف عبيد - المشكلات العملية الهامة فى الإجراءات الجنائية – 1980 – ص508-514.

[5] راجع شفيق شحاتة – نظرية النيابة فى القانون الرومانى والشريعة – سنة 1959 – ص47 ، ص50.

[6] راجع حسن محمد علوب – استعانة المتهم بمحام فى القانون المقارن 1970 – ص47 وما بعدها – وهو يحيل القارئ إلى مؤلف ابن قدامة (المغنى والشرح الكبير) – ص204 ، وإلى مراجع أخرى.

[7] المرجع السابق – ص48 ، 49.

[8] القضية رقم 49 لسنة 17 قضائية "دستورية" – جلسة 15 يونيه 1996 – قاعدة رقم 48 – ص739 وما بعدها من الجزء السابع من مجموعة أحكام المحكمة.

[9] المستشار الدكتور/ عوض المر – الرقابة القضائية على دستورية القوانين – مركز رينيه جان دبوى للقانون والتنمية – ص1135

[10] دستورية عليا فى 16 مايو سنة 1992 فى القضية رقم 6 لسنة 13 قضائية دستورية – مجموعة أحكام الدستورية العليا – س5 – المجلد الأول – ص385.

[11] نقض 4 فبراير سنة 1952 – مجموعة الأحكام – س3 – رقم 235 – ص684 ، 8 مارس سنة 1960 – س11 – رقم 44 – ص218 ، 31 أكتوبر سنة 1961 – س12 – رقم 174 – ص877 ، 29 مارس سنة 1964 – ص15 – رقم 45 – ص221 ، أول يونيو سنة 1964 – س15 – رقم 88 – ص452 ، 4 يناير سنة 1976 – س27 – رقم 2 – ص17.

[12] نقض 2 أكتوبر سنة 1967 – مجموعة الأحكام – س18 – رقم 185 – ص926.

[13] دستورية عليا فى 16 مايو سنة 1992 فى القضية رقم 6 لسنة 13 قضائية دستورية.

[14] نقض 23 أكتوبر سنة 1968 – مجموعة الأحكام – س18 – رقم 208 – ص2018 ، 29 أبريل سنة 1974 – س25 – رقم 94 – ص438.

[15] نقض 20 أكتوبر سنة 1974 – مجموعة الأحكام – س25 – رقم 148 – ص691.

[16] نقض 18 مارس سنة 1946 – مجموعة القواعد – س18 – رقم 113 – ص109 ، 28 أكتوبر سنة 1952 – مجموعة الأحكام – س4 – رقم 20 – ص47 ، 31 يناير سنة 1956 – س7 – رقم 36 – ص104 ، 3 نوفمبر سنة 1958 – س9 – رقم 211 – ص859 ، 30 مارس سنة 1959 – س10 – رقم 82 – ص369 ، 15 نوفمبر سنة 1962 – س13 – رقم 172 – ص707 ، 19 نوفمبر سنة 1962 – ص13 – رقم 182 – ص745 ، 25 نوفمبر سنة 1968 – س319 – ص1000.

[17] نقض 24 يونيه سنة 1968 – مجموعة الأحكام – س19 – رقم 151 – ص750 ، مايو سنة 1991 – الطعن رقم 554 لسنة 60 ق.

[18] نقض 14 يونيه سنة 1965 – مجموعة الأحكام – س16 – رقم 115 – ص576.

[19] نقض 23 يناير سنة 1939 – مجموعة القواعد – ج4 – رقم 341 – ص446 ، 25 نوفمبر سنة 1968 – مجموعة الأحكام – س19 – رقم 205 – ص1008.

[20] نقض أول أبريل سنة 1935 – مجموعة القواعد – س3 – رقم 354 – ص456. د/ أحمد فتحى سرور - القانون الجنائى الدستورى – دار الشروق 2006 – ص517-520.

[21] دليل المحاكمات العادلة – ديفيد فيسبورت.

[22] حكم محكمة التحكيم البلجيكية رقم 202 الصادر سنة 2004 Annvaire Inter. 2004, P. 330, 331.

[23] د/ أحمد فتحى سرور – القانون الجنائى الدستورى – دار الشروق 2006 – ص507 ، 508.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قاعدة تقيد المحكمة بحدود الدعوى

مبدأ المساواة بين الدفاع والادعاء (مساواة السلاح)

عدم جواز محاكمة المتهم أو معاقبته مرة ثانية عن جريمة سبق أن صدر فى حقه حكماً باتاً فيها