محاكمة المتهم أمام قاضيه الطبيعى

تنص المادة (68) من دستور عام 1971 على أن: "التقاضى حق مصون ومكفول للناس كافة ، ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعى ..." ، كما نصت المادة (75) من دستور عام 2012 فى فقرتها الرابعة على: "ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعى".

كما لا نظن أن يأتى دستور خلواً من مثل هذه الضمانة المهمة والتى تجعل القاضى الطبيعى هو الأساس فى القضاء فى الدولة.

وقد ظهرت فكرة القاضى الطبيعى لأول مرة فى العهد الأعظم فى انجلترا عام 1215 ثم عرفت هذه الفكرة فى النصف الأول من القرن الثالث عشر فى صورة معينة وهى انتماء القاضى إلى نفس طبقة المتقاضين ، فيحاكم رجال الكنيسة أمام نظرائهم من رجال الكنيسة ويحاكم الإقطاعيون أمام المحاكم الإقطاعية ، ثم ظهرت فكرة القاضى الطبيعى كأصل من أصول الدولة القانونية ، وعبر عنها الدستور الفرنسى الصادر سنة 1790 فى المادة 1171 بوصفها ضماناً أساسياً للحريات.

ويتطلب القضاء الطبيعى عدة شروط يجب توافرها فيه[1]:

أ) إنشاء المحكمة وتحديد اختصاصها بقانون:            

إن القانون بقواعده العامة المجردة هو أداة إنشاء المحكمة وتحديد اختصاصها. وقد نصت المادة (14) من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية الصادر سنة 1966 على أن لكل فرد الحق فى محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة قائمة استناداً إلى القانون ، فلا يجوز للسلطة التنفيذية أن تنشئ – فى غير حالة الظروف الاستثنائية – أية محكمة استثنائية أو أية محكمة لها اختصاص مواز للمحكمة ذات الاختصاص الأصيل.

ويفترض فى المحكمة التى تختص السلطة التشريعية – وحدها – بإنشائها أن تملك الوظيفة القضائية وفقاً للمعيار الموضوعى لا مجرد المعيار الشكلى. فالعبرة هى بالمهمة أو السلطة الممنوحة للجهة التى أنشئت ، فإذا كان من اختصاصها فرض جزاء أو الفصل فى نزاع معين ، فإنها تعد محكمة.

مثال ذلك ما قضى به مجلس الدولة الفرنسى من بطلان المرسوم سنة 1960 بإنشاء لجان إدارية تختص – بجانب اختصاصها الإدارى – بنظر بعض الدعاوى أن هذه اللجان تعتبر فى حقيقتها محاكم ولا يجوز إنشاؤها إلا من السلطة التشريعية.

ب) إنشاء المحكمة وتحديد اختصاصها وفقاً لمعايير عامة مجردة:

إن القانون هو أداة إنشاء المحاكم وتحديد اختصاصها وهو ما يفترض وجود قاعدة عامة مجردة تحكم هذا الأمر. فكل مواطن يجب أن يعرف سلفاً من هو قاضيه وفقاً لمعايير عامة مجردة ، فلا يجوز بعد وقوع الجريمة انتزاع المتهم من قاضيه الطبيعى إلى محكمة أخرى أنئت لدعاوى معينة دون ضوابط عامة مجردة ، وذلك بإخراج هذه الدعاوى التى كانت من اختصاص المحكمة ونقلها إلى محكمة أنئت لها خصيصاً. وهذا هو ما أكدته المحكمة الدستورية الإيطالية تطبيقاً لنص المادة (25) من الدستور الإيطالى التى نصت على أنه لكل شخص الحق فى محاكمته أمام قاضى طبيعى أنشأه القانون. ولا محل للتحدى بأن القانون الجديد المعدل للتنظيم القضائى أو للاختصاص يستوحى أحكامه من اعتبارات حسن تنظيم العدالة ، لأن هذه الاعتبارات يجب مراعاتها دون انحراف عن الغاية المشروعة من إصدار القانون. فإذا كانت المحكمة قد أنشئت أو تحدد اختصاصها بالنسبة إلى دعوى جنائية معينة ، فإن القانون يكون مشوباً بعيب انحراف فى السلطة التشريعية طالما فقد طابع التجريد. كما أن إدخال جريمة معينة وقعت من قبل فى اختصاص المحكمة الجديدة يعتبر انتزاعاً ضمنياً للدعوى من اختصاص المحكمة الأصلية ، وهو ما يتعارض مع استقلال القضاء.

ولا يكفى أن تكون العقوبات المقررة للجريمة لم يمسها التغيير فى القانون الجديد ، كما لا يغير من الأمر أن تكون الإجراءات واحدة فى كلا المحكمتين ، لأن طبيعة المحكمة واختصاصها أمر يتعلق باستقلال القضاء وحياده ، وهو أمر لا يمكن التفريط فيه حماية للحريات.

وتطبيقاً لذات المبدأ يجب أن يتم توزيع القضايا على الدوائر المختلفة بمحكمة النقض وكل محكمة استئناف أو محكمة ابتدائية وفقاً لقواعد عامة مجردة تحددها الجمعية العامة للمحكمة أو رئيسها إن فوضته بذلك [2] تأكيداً لحياد القضاء واستقلاله وضماناً لمبدأ المساواة أمام القضاء بوصفها ضمانات متكاملة يتأسس عليها ضمان القضاء الطبيعى. ولهذا قضى المجلس الدستورى فى فرنسا بعدم دستورية نص كان يخول رئيس المحكمة الابتدائية سلطة تحديد المحكمة التى تحال إليها الدعوى ، وما إذا كانت هذه المحكمة تتكون من ثلاثة قضاة أو من قاضى فرد على أساس إخلال هذا النص بمبدأ المساواة.

أما إذا صدر قانون بتعديل اختصاص المحكمة بطريقة عامة مجردة ، فإنه يسرى بطريق مباشر على جميع الدعاوى القائمة ولو كانت عن جرائم وقعت قبل العمل بالقانون.

الأصل أن يستهدف القانون تحقيق المصلحة العامة من وراء هذا التعديل بأن تكون المحكمة الجديدة أو الاختصاص الجديد للمحكمة يحقق للعدالة فاعلية أكثر أو يوفر للمتهم ضماناً أكبر.

وتزول شبهة المساس بالقضاء الطبيعى إذا كان القانون الجديد قد جعل الدعوى من اختصاص المحكمة الأكثر ضماناً للمتهم. ففى هذه الحالة يتأكد احترام الحريات.

وقد راعى المشرع اعتبار المحكمة الأكثر ضماناً للمتهم فى الحالات التى يتعدد فيها اختصاص المحاكم بنظر جريمة واحدة فنص فى المادة (182/1) من قانون الإجراءات الجنائية على أنه إذا كانت الجرائم من اختصاص محاكم من درجات مختلفة تحال إلى المحكمة الأعلى درجة. فهذه المحكمة هى بلا شك الأكثر ضماناً بطريقة عامة مجردة.

ج) أن تكون المحكمة دائمة:

ويقصد بها المحكمة العادية التى أنشأها القانون لنظر الدعوى دون قيد زمنى معين سواء تحدد هذا القيد بمدة معينة أو بظروف مؤقتة مثل حالة الحرب أو حالة الطوارئ. فهذا النوع من المحاكم المؤقتة لا يعد من قبيل القضاء الطبيعى إلا بالنسبة للجرائم التى أنشئت من أجلها. أما الجرائم العادية فهى دائماً من اختصاص المحاكم العادية التى لا يتوقف وجودها أو اختصاصها على وقت أو ظرف معين.

وقد نص المبدأ الثالث من المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية التى أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة فى ديسمبر سنة 1985 على أن: "تكون للسلطة القضائية الولاية على جميع المسائل ذات الطابع القضائى ، كما تنفرد بسلطة البت فيها إذا كانت أية مسألة معروضة عليها للفصل فيها تدخل فى نطاق اختصاصاتها حسب التعريف الوارد فى القانون". كما جرى فى المبدأ الخامس على أنه: "لكل فرد الحق فى أن يحاكم أمام المحاكم العادية أو الهيئات القضائية التى تطبق الإجراءات القانونية المقررة ، ولا يجوز إنشاء هيئات قضائية لا تطبق الإجراءات القانونية حسب الأصول الخاصة بالتدابير القضائية ، بقصد نزع الولاية القضائية التى تتمتع بها المحاكم العادية ، والهيئات القضائية".

كما نص البيان العالمى لحقوق الإنسان فى الإسلام الصادر عن المجلس الإسلامى المنعقد فى باريس سنة 1981 على حق الفرد فى محاكمة عادلة أمام محكمة ذات طبيعة قضائية كاملة[3].



[1] د/ أحمد فتحى سرور – القانون الجنائى الدستورى – دار الشروق 2006 – ص414 وما بعدها.

[2] المادة (30) من القرار بقانون رقم 46 لسنة 1972 بشأن السلطة القضائية.

[3] الشافعى محمد بشير – قانون حقوق الإنسان ذاتيته ومصادره – مقال منشور بالمجلد الثانى لحقوق الإنسان – ص46 وما بعدها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قاعدة تقيد المحكمة بحدود الدعوى

مبدأ المساواة بين الدفاع والادعاء (مساواة السلاح)

عدم جواز محاكمة المتهم أو معاقبته مرة ثانية عن جريمة سبق أن صدر فى حقه حكماً باتاً فيها