مبدأ المساواة أمام القضاء

يقصد بالمساواة لغة السواء والعدل يقال ساوى الشئ إذا عدل وساويت بين الشيئين إذا عدلت[1].

ينبثق هذا الضمان من ضمان دستورى عام يسرى على جميع الحقوق والحريات ولا يقتصر على ما يتعلق بالخصومة الجنائية وهو مبدأ المساواة[2].

ولا يتنافى مع مضمون المبدأ وجود محاكم مختلفة باختلاف أنواع المنازعات أو باختلاف طبيعة الجرائم بشرط ألا تقام تفرقه أو يوضع تمييز بين الأشخاص المتقاضين . وهكذا يتضح أن المساواة أمام القضاء عنصر فى مبدأ المساواة أمام القانون وفى ذلك تقول المحكمة الدستورية العليا المصرية: "مبدأ المساواة لا ينطبق على الحريات والحقوق المنصوص عليها فى الدستور فحسب , وإنما أيضا على كافة الحقوق التى يكفلها المشرع للمواطنين , وأن هذه المساواة ليست مساواة حسابية , إذ يملك المشرع بسلطته ووفقاً لمقتضيات الصالح العام وضع شروط موضوعية تتحدد بها المراكز القانونية التى يتساوى بها الأفراد أمام القانون بحيث إذا توافرت هذه الشروط فى طائفة من هؤلاء الأفراد وجب أعمال المساواة بيتهم لتماثل مراكزهم القانونية ..... "[3].

وقد مر مبدأ المساواة أمام القضاء بتطور تاريخى هام . ففى ظل الأنظمة القديمة حيث كان وجود النظام الملكي ورسوخ نظام الإقطاع وما أدى إليه من انقسام المجتمعات إلى طبقات اجتماعية متفاوتة . كما له أكبر الأثر فى انهيار المساواة أمام القضاء وبذلك تعددت المحاكم بتعدد الطبقات للفصل فى منازعات كل طبقة من هذه الطبقات على حدة . وفى الدول الواقعة تحت الاحتلال كانت هناك المحاكم المختلطة وهناك امتياز خاص للأجانب على المواطنين وكان هذا واقع فى الدول العربية أو غيرها على حد السواء.

ويحسب للثورة الفرنسية إلغائها للامتيازات القضائية وبهذا أصبح لكل المواطنين الحق دون تمييز ف الالتجاء الى القضاء وفقا لذات الإجراءات ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أن مبدأ المساواة قد احتل مكانة بارزة فى إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسى الصادر فى عام 1789 أو فى دساتير الثورة الفرنسية وهذا كان له الأثر البالغ فى اعتناق كافة الأنظمة الأخرى لهذه المبادئ الإنسانية , ولذا يعد مبدأ المساواة أمام القضاء من أهم المبادئ التى يؤسس عليها النظام القضائى.

وقد نص الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى المادة (7) على " الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون فى حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون فى حق التمتع بالحماية من أى تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز".

كما تنص المادة (14/1) من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية على " الناس جميعا سواء أمام القضاء ...".

وقد نص على مبدأ المساواة فى دستور عام 1971 فى المادة (40) التى تنص على أن "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة".

كما نص دستور عام 2012 فى المادة (33) على أن "المواطنون لدى القانون سواء؛ وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك".

ويترتب على مبدأ المساواة أمام القضاء ثلاثة نتائج هامة:

الأولى : تتمثل فى وحدة القضاء :

بمعنى أن يكون التقاضى بالنسبة لجميع أفراد المجتمع وطبقاته الاجتماعية , ولكن ليس مما يتنافى مع وحدة القضاء بالمعنى المذكور وجود القضاء المزدوج أى وجود قضاء إدارى بجوار القضاء العادى , يختص الأول بالفصل فى المنازعات الإدارية , ويفصل الثانى فى المسائل المدنية والجنائية.

والنتيجة الثانية : تتمثل فى ضرورة المساواة فى القواعد الموضوعية والإجرائية التى يخضع لها المتقاضون:

ويقصد بالمساواة من الناحية الموضوعية أن تكون القواعد الموضوعية التى تتضمنها القوانين التى تطبق على المتقاضين فيما ينشأ بينهم من منازعات واحدة .

أما المساواة من الناحية الإجرائية فيقصد بها أن تكون القواعد الإجرائية التى تطبق على المتقاضين واحدة سواء من حيث إجراءات رفع الدعوى أو من حيث استدعاء الخصوم إلى مجلس القضاء أو فى الاستماع إليهم سواء من المدعى أو المدعى عليه .

والنتيجة الثالثة: تتمثل فى مجانية القضاء:

بمعنى أن القضاة لا يتقاضون أجرا من الخصوم مقابل الفصل فى منازعاتهم. وإنما يؤدون وظائفهم نظير مرتبات تدفعها لهم الدولة شأنهم شأن سائر موظفى الدولة , ولكن الدول الحديثة تفرض فى مباشرة إجراءات التقاضى رسوماً محددة وإن كان البعض وبحق يرى بأن فرض الرسوم قد تقف حجر عثرة فى سبيل تحقيق المساواة الحقيقية بين المتقاضيين وذلك بسبب عدم قدرة البعض على دفع هذه الرسوم بسبب أنها قد تكون فوق طاقتهم المادية. ولذلك نظمت معظم الأنظمة القضائية وسائل تقديم المساعدات القضائية إلى المتقاضين المحتاجين.

ومبدأ المساواة أمام القضاء فى الشريعة الإسلامية من المبادئ الأساسية التى يقوم عليها نظام القضاء فى الإسلام , فهى لازمة بنصوص القرآن الكريم والسنة وأعمال السلف , حيث لا يعرف النظام الإسلامى تفرقة بين الخصوم بسبب اختلاف مكانتهم. كما أن النظام القضائى الإسلامى لا يميز بين الناس عند الحكم بينهم بحسب الأصل أو الجنس أو العقيدة. فيقول الله تبارك وتعالى فى الآية 105 من سورة النساء: "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وفى الآية رقم 58  من ذات السورة: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا".

وقال الله تعالى فى الآية رقم 13 من سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"

وقد طبق الرسول الكريم وأصحابه رضوان الله عليهم هذا المبدأ فيما عرض عليهم من خصومات فقد أشار النبى صلى الله عليه وسلم لسبب هلاك الأمم من قبل وإرجاعها إلى التفرقة بين الأغنياء والفقراء وهو يضفى أهمية بالغة على هذا المبدأ، حينما أمر أن تقطع يد المرأة المخزومية، وهى من أشراف قبائل العرب، وكانت تستعير الشئ ثم تجحده، فاهتمت لذلك قريش، قالوا: امرأة من بنى مخزوم وتقطع يدها؟ من يشفع لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأوا أن أقرب الناس لذلك أسامة بن زيد بن الحارثة ، فذهب إلى النبى صلى الله عليه وسلم يشفع لهذه المرأة ألا تقطع يدها ، فقال النبى عليه الصلاة والسلام: (أتشفع فى حد من حدود الله؟)، ثم قام فخطب الناس وقال: (أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ؛ لقطعت يدها) [4].

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربى على أعجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى"[5].

وكان النبى صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف جيشه قبيل غزوة بدر، بقضيب في يده، غمز سواد بن غزية ، وهو خارج عن الصف، فطعنه فى بطنه بالقضيب، وقال: (استو يا سواد) ، فقال سواد: أوجعتنى يا رسول الله ، وقد بعثك الله بالحق فأقدنى ، فكشف الرسول عليه الصلاة والسلام عن بطنه، وقال: (اقتص يا سواد)[6].

وقد ذكر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى كتابه إلى أبى موسى الأشعرى قاضيه بالكوفة - الذي عرف برسالة القضاء - " آس بين الناس فى وجهك وعدلك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف فى حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك".

وقد أكد على بن أبى طالب رضى الله عنه على مبدأ المساواة بقوله : "اجعل الناس عندكم فى الحق سواء قريبهم كبعيدهم , وبعيدهم كقريبهم . وإياكم والرشا والحكم بالهوى وأن تأخذوا الناس عند الغضب فقوموا بالحق ولو ساعة من نهار".

فالنظام الإسلامى القضائى قد عرف وطبق مبدأ وحدة القضاء, فالمحاكمة الواحدة يحاكم أمامها الجميع , والقضاة هم نفس القضاة, فلا توجد تفرقة بسبب الأصل أو الجنس أو الطبقة أو اللون أو الثروة. كما لا يعرف النظام الإسلامى نظام المحاكم الخاصة بطبقة أو بفئة معينة من الناس , ولا تتمتع طبقة اجتماعية ما بميزة خاصة , وتحرم منها الطبقات الأخرى , ويطبق مبدأ المساواة على الكافة حتى ولو كانوا من غير المسلمين ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى" .

والقضاء فى الإسلام قضاء مجانى يتحمل بيت المال رزق القضاة وهو الأصل العام الذى ساد فى النظام الإسلامى. وبذلك يتضح أن الإسلام ينظر إلى القضاء كأساس للعدل .



[1] ابن المنظور – لسان العرب – بيروت 1997 – ص373.

[2] د/ أحمد فتحى سرور – القانون الجنائى الدستورى – دار الشروق 2006 – ص447.

[3] حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر بجلسة 29\4\1989 في القضية رقم 21 لسنة 7 قضائية دستورية.

[4] صحيح سنن أبي داود للألباني، (4373).

[5] رواه أحمد في مسنده، (22391)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (2700).

[6] البداية والنهاية، ابن كثير، (3/331).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قاعدة تقيد المحكمة بحدود الدعوى

مبدأ المساواة بين الدفاع والادعاء (مساواة السلاح)

عدم جواز محاكمة المتهم أو معاقبته مرة ثانية عن جريمة سبق أن صدر فى حقه حكماً باتاً فيها