مبدأ عدم رجعية القوانين

يقتضى مبدأ الشرعية الجنائية أن يمتنع تطبيق نصوص قانون العقوبات على الأفعال التى وقعت قبل تاريخ العمل به. لأنه قبل هذا التاريخ لم يكن هناك وجود للقانون ، وحيث لا يوجد القانون ، فلا يمكن أن توجد جريمة ولا عقوبة إعمالاً لمبدأ الشرعية الجنائية ، وهذا ما يقال له قاعدة عدم رجعية قانون العقوبات أى عدم جواز إرجاع أثره فى التجريم والعقاب إلى ما قبل تاريخ نفاذه ، فالقاعدة إذن أن كل جريمة يطبق عليها القانون الذى وقعت فى ظل العمل به. أى أن قانون العقوبات يطبق على الجرائم التى تقع منذ تاريخ نفاذه فقط لا قبل ذلك[1].

وقد نصت على قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية المادة (66) من الدستور المصرى الصادر عام 1971 إذ جاء نصها "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى ، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون".

وقد نص دستور عام 2012 على ذات المضمون فنص فى المادة (76) منه على أن "العقوبة شخصية ، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص دستورى أو قانونى ، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائى ، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون".

كما نصت المادة الخامسة من قانون العقوبات المصرى على أن "يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها".

وهذه القاعدة فى القوانين الجنائية تختلف فى غير القوانين الجنائية حيث أنه فى غير القوانين الجنائية يجوز للمشرع بإيراد نص صريح فى القانون يجعل أثر تطبيقه على الماضى وذلك بموافقة أغلبية معينة هى أغلبية أعضاء مجلس الشعب ، أما فى القوانين الجنائية فالوضع مختلف فهذه القاعدة (عدم الرجعية) تلزم المشرع قبل القاضى ، بمعنى أن المشرع نفسه لا يستطيع أن يورد فى القانون الجنائى نصاً يجعله سارياً على وقائع حدثت قبل العمل به. وهذا هو قيمة النص على القاعدة فى الدستور إذ النص فى الدستور يلزم المشرع والنص فى قانون العقوبات يلزم القاضى.

ويبرر قاعدة عدم رجعية القوانين الجنائية على الماضى أنها ضمانة من ضمانات حرية الأفراد (وهى ضمانة أيضاً من ضمانات المتهم والدفاع أمام المحاكم الجنائية) التى هى من مبررات مبدأ الشرعية الجنائية ذاته إذ كم تتأذى الحرية الفردية من أن يعاقب إنسان سبق أن تصرف فى حدود ما يأمر به القانون المعمول به عندما وقع تصرفه. ولا شك أن تطبيق القانون الجديد على أفراد معروفين للمشرع ومحددين بذواتهم عند العمل به ، هم الذين سبق أن ارتكبوا الأفعال التى أتى بتجريمها ، يتنافى مع العمومية التى تتصف بها القاعدة الجنائية. وبذلك تصبح هذه القاعدة الجنائية أداة تنكيل فى يد المشرع.

وهذه المبررات هى نفسها التى تبين حدود هذه القاعدة. فمادام الخوف على الحرية والحفاظ على الشرعية هو مبناها فإنه يترتب على ذلك ضرورة أن تقف حدود هذه القاعدة عند القوانين الجنائية الموضوعية المجرمة أو المشددة وهى التى تتعلق بشروط التجريم والعقاب ودرجاته والتى تجلب وضعاً أشد على المتهم من الوضع الذى ارتكب فى ظله الفعل المنسوب إليه. سواء كان وجه التشديد أن جرم فعلاً كان مباحاً أو شدد العقاب على فعل كان معاقباً عليه بعقوبة خفيفة عند ارتكابه. وبالجملة يشترط لكى تسرى قاعدة عدم الرجعية على الماضى أن يأتى القانون الجديد بأوضاع تعتبر أشد على المتهم من أوضاع القانون القديم الذى ارتكب فى ظله جريمته.

ويترتب على ذلك من جهة أخرى أنه إذا تخلف هذا الاعتبار بأن كان القانون الجديد لا يمثل أى وجه من وجوه التشديد بل على النقيض من ذلك يعتبر أصلح للمتهم لإيراده حكماً أخف عليه فإن حظر الرجعية يتوقف وينقلب الأمر بجعل القاعدة هى رجعية القانون الجديد الأصلح للمتهم.

وقد نص على هذا المبدأ فى المادة (11/2) من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان حيث نص على أن "لا يدان أى شخص بجريمة بسبب أى عمل أو امتناع عن عمل لم يكن فى حينه يشكل جريمة بمقتضى القانون الوطنى أو الدولى ، كما لا توقع عليه أية عقوبة أشد من تلك التى كانت سارية فى الوقت الذى ارتكب فيه الفعل الإجرامى".

كما نصت المادة (15/1) من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية على ذات مضمون المادة (11/2) من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان.

وقد سبق القرآن الكريم تلك المعاهدات والقوانين فنص الله تعالى فى سورة الإسراء فى الآية الخامسة عشر على "مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا". فكانت هذه الآية الكريمة سباقة فى إقرار مبدأ عدم رجعية التجريم والعقاب أو بمعنى آخر أنه لا عقاب إلا بعد الإنذار أى لا عقاب إلا بنص قانونى سارى وهذا هو عين مبدأ عدم رجعية القوانين.



[1] د/ عبد الرؤوف مهدى – شرح القواعد العامة لقانون العقوبات – 2007 – ص323.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قاعدة تقيد المحكمة بحدود الدعوى

مبدأ المساواة بين الدفاع والادعاء (مساواة السلاح)

عدم جواز محاكمة المتهم أو معاقبته مرة ثانية عن جريمة سبق أن صدر فى حقه حكماً باتاً فيها